قبل ان نتناول دراسة نهر النيل ننوه بأنه عندما تستنشق زھره اللوتس فأنت في الحقیقة تستنشق عطر مصر وجوھرھا، فلقد تأمل المصري القدیم هذه الزهرة فوجد جذورھا في الطین، وساقھا في الماء، وأوراقھا تتفتح في الهواء وتحت ضوء الشمس فاتخذ منھا رمزا للرحم الذي یخرج منه “رع” لیشرق بنوره هو الإله على العالم.
ويتخذ نھر النیل في رحلته شكل زھره اللوتس من أقصى الجنوب عند أبو سمبل حتى أقصى الشمال عند سواحل البحر الأبیض المتوسط، ويمتاز النيل بفيضان سنوي يظهر في وقت معين وينحسر فى وقت معين.
كلمة النيل
النيل كلمة مأخوذة عن اليونان واصلها نيلوس أما الاسم المصري القديم فهو (يومع) اى بمعنى اليم او (أور) بمعنى النهر الكبير أما اسمه المقدس فهو (حعبى)، هكذا خلد فراعنة مصر العظام نيلهم الذي أمدهم بسر الحياة هكذا قدس فراعنة مصر النيل وأطلقوا عليه حعبى هكذا كان شريان الحياة، فكل مكان يصل إليه نهر النيل هو مكان مصري من ارض مصر عدا ذلك فهو ليس من ارض مصر هكذا قال الأجداد.
مصر هبة النيل
هكذا قال هيرودوت، إن المتأمل في حضارة مصر القديمة والدارسين والمحبين والعاشقين لهذه الحضارة التي كانت تقود الأمم في الماضي والآن تعد مرجعا هاما في علوم عديدة؛ ليُرى كيف كرس المصري القديم حياته، وقام بتنظيميها وعشق أرضها ونيلها.
ومن ذلك العشق الذي أودى به إلى التقدم الهائل الذي يعجز فيه العقل البشرى، حتى لو على سبيل المثال تخيلا في رحلة باطنية تخوض فيها العقول في محاولة التوغل في عبق الماضي منذ الأزمنة السحيقة التي عاش فيها الإنسان الأول على أرض مصر وبدأ بمرحلة جمع قوته والبحث عن طعامه، ومن ثَم إنتاج ذلك القوت نفسه ، فكان يخرج إلى الصيد البرى والنهري والبحري وعاش متنقلا من مكان إلى آخر ليبحث عن مأوى من أشعة الشمس ومن برد الشتاء وبعد مراحل جمع القوت وإنتاجه استطاع استئناس الحيوان وإشعال النار.
فكان وأقرانه من الشعوب التي تعلمت إشعال النار وكيفية إطفائها، على عكس شعوب العالم حينئذ؛ لذا لم يقدس المصري القديم (النار)؛ لأنه كان له القدرة على التحكم بها ومن ثم كانت له القدرة على تسخيرها في أمور حياته المختلفة.
وتعلم بعد اكتشاف النار كيف يطهو طعامه ومن ثم تحويل الطين إلى فخار والاستمتاع بالدفء في الشتاء والبرد القارص وينير الليل بواسطة تلك النار، ومعرفته الزراعة على ضفاف نهر النيل فحققت له الاستقرار والوحدة.
وكيف نظر إلى نيله وأرضه وكيف حول هذه الأرض السوداء حين ذاك إلى ارض خضراء مثمرة ليحصل على طعامه، ومن ثم إلى أشياء قادته إلى الانطلاق في ميادين العلم والعمل.
ووصل به الحال إلى اكتشاف علوم حتى الآن لم نكتشف سرها. ومبان وصروح كيف شيدها، ومقابر أسفل الصخور لتخليد موتاهم فبداية هذه الحضارة هي الإنسان الأول ومن ثم نهر النيل الخالد ثم الانطلاق إلى كل ميادين العلم والمعروفة.
حدود نهر النيل
قسم تفرع النيل هذا إقليم مصر إلى قسم قبلي (مصر العليا)، وقسم بحري (الدلتا)، أما القسم القبلي فيمتد من أسوان إلى القاهرة أو كما قال قدماء المصرين من جزيرة الفيلة إلى منف، وإما القسم البحري فمنبسط على شكل حرف الدال الإغريقي يحده من الشمال البحر المتوسط.
فمصر قليلة الأمطار، متوسط أيامها الممطرة حاليا بالوجه البحري ما يقارب 42 يوما في السنة ويقابل هذا العدد 26 يوما في القاهرة، وكلما اتجهنا نحو الجنوب يقل هذا العدد حتى يصل إلى الصفر تقريبا. هكذا اعتمدت مصر في جميع نواحي البلاد على النيل. وجهل المصريون منابع النيل فقالوا مرة أنه آت من السماء، وقالوا مرة أخرى أنه نتيجة سقوط دموع ايزيس فيه إذا ما بكت على فقدان زوجها أزوريس.
محاولة فلاسفة اليونان تفسير فيضان نهر النيل
الحضارة المصرية يكتب فيها الكاتبون، ويبحث فيها الباحثون، ويشكك فيها المشككون جيلا وراء جيل، ولكن يظل في أعماقها وفى ظاهرها نهر دافق يقول ويقول هو سر الحياة لهذه الحضارة.
قال بعضهم إن قوة الرياح الشمالية تمنع جريان النيل في البحر وتحبسه في حوضه، وقال البعض بما أن النيل ينبع من المحيط المائي حول الأرض ففيضانه اندفاع لمياه ذلك المحيط، وقال فريق ثالث الفيضان نتيجة ذوبان الثلوج على قمم الحبشة مضاف إليها إمطار ذلك الإقليم، والقول الأخير الأقرب إلى الصواب ومع ذلك فقد فنده آخرون فقالوا وكيف تتكون من الحبشة ثلوج وهى بلاد في غاية الحرارة؟
انه محال نحن نعرف الآن أن النيل الأبيض غير النيل الأزرق يأتي الأول من أواسط أفريقيا وهو على طول المسافة رائق الماء هادى السير عديم الطمي، ويأتي الثاني من الحبشة وهو عاصف منحدر كفرع عطبرة عكر الماء قوى الاندفاع ملئ بالطمي ومن هذا الطمي تكونت الرقعة الزراعية وتكونت الحياة أيضا.
فيضان نهر النيل وخصوبة الأرض
إذا كان شحيحا تعذر ري كل الأرض، ومعنى هذا قله الخصوبة وقله المحصول، وقد تصل القلة إلى درجة القحط، وحدث أن شح الفيضان عدة سنوات متتالية فصحب ذلك القحط والضنك الشديد، مثلما حدث عن قصة يوسف علية السلام، وأما إذا كان الفيضان عاليا علوا بالغا فذلك يعنى الخراب الشامل، فالفيضان العالي يكتسح كل شئ امامه، فيكتسح الجسور والقرى والمدن كما يكتسح الحيوانات والأهالي والآلات الزراعية والمحاصيل، وكان ارتفاع النهر لستة عشر قيراطا معتبر أفضل ارتفاع للفيضان.
يروى فيضان النيل ارض مصر كل عام ويمدها بكمية كبيرة من الطمي الذي يصلح تربتها، ويأتي هذا الفيضان من الحبشة نتيجة لهطول الأمطار وذوبان الثلوج المتراكمة على قمم الجبال أيضا.
ظهور الفيضان وفوائده
يظهر الفيضان في الخرطوم في أوائل أبريل فيرتفع منسوب مياه النيل الأبيض وتزداد مواده النباتية الآتية من وسط أفريقيا حيث تكثر المستنقعات، وبعد ذلك بحوالي الشهر يبدأ منسوب مياه النيل الأزرق في الارتفاع حاملا معه الطمي، وباختلاط زيادة مياه النيلين يبدأ الفيضان السنوي في منتصف شهر يونيو من كل عام، ويبلغ متوسط ارتفاع النيل من 40 إلى 45 قدما في الصعيد ومن 20 إلى 25 في مصر السفلى، ويستمر الفيضان حتى بعد منتصف سبتمبر عندما يبلغ الفيضان قمته، وبعد ذلك يهبط بسرعة ابتدأ من منتصف أكتوبر تاركا الأرض مرتوية ومغطاة بطبقة من الغرين الذي يخصب الأرض إخصابا.
وكان لهذه الظاهرة الطبيعية أثر عظيم في حياة قدماء المصرين وتفكيرهم، لقد دفعهم هذا إلى تشييد مدنهم وقراهم في أماكن عالية لينجوا من خطر الفيضان، وكان ذلك الفيضان تحت إشراف دقيق لذلك أنشأت الحكومات القديمة المتعاقبة مقاييس للنيل في عدة أماكن، منها مقياس (منف) وهو عبارة عن بئر متصلة بالنيل نقشت على جدارها مقاييس بنفس طريقة مقياس (الروضة).
وكانت اخبار الفيضان من حيث ارتفاعه وانخفاضة تنقل شفاها أولا بأول إلى كل بلاد القطر، وما دام الفيضان في ارتفاع كان الاهالى في قلق وخوف من الغرق، ولا يذهب القلق عنهم إلا إذا انحسر الفيضان، عندئذ فقط يمكن الفلاح أن يتنبأ بقدر محصول أرضه القادم، وبعبارة أخرى يمكن للحكومة أن تنبأ بالحالة الزراعية العامة، هل هي حالة رخاء أم قحط.
وكل اقتصاد مبنى على عامل متغير غير مستقر هو اقتصاد غير مأمون، وفيضان النيل عابر لا أمان له في حدوثه ولا في قدرته، لذلك كان القوم منذ أقدم العصور ينسقون جهودهم نحو الإشراف الكامل على مياه النيل، ليؤمنوا غوائل فيضانه، حجزوا مياه النيل عند شحتها وصدوها عن الاراضى عند غزارتها، انشأوا الحياض، وانشأوا الجسور، وفتحوا فتحات الصرف، وأقاموا قنوات التوزيع، وكونوا هيئة عليا للأشراف على زراعة القطن وريه، أنشاوا لذلك إدارات عده اعتبروا كل حوض وحدة زراعية قائمة بذاتها وأهلها مسئولون عن شؤونها.
تقسيم السنه الشمسية فى مصر القديمة
هكذا نجد أن النيل لم يخلق القطر المصري فقط، ولم يوفر لأهلة الغذاء والكساء، بل جمع كلمتهم واضطرهم لابتكار النظم الزراعية السليمة وكافة النظم الاجتماعية، فضلا على ذلك كان للنيل اثر أخر بعيد عما ذكر، فلقد حسب القوم سنتهم الشمسية وبدأوها مع توافق شروق نجم الشعري اليمنية مع ظهور الفيضان، والشروق هنا يعنى ظهور ذلك النجم في الأفق الشرقي مع الشمس، وقسموا السنة ثلاثة فصول وقسموا الفصل أربعة أشهر وسموا الفصول (الفيضان – البذر والإنماء – وفصل الحصاد)، وكان شهرهم ثلاثين يوما وكانت سنتهم 360 يوما مضاف إليها 5 أيام هي أيام النسئ وهى الأيام التي فيها أعياد الإلهية الرئيسية الخمسة.
بعد ذلك عرف القوم السنة الشمسية 365 وربع يوم اى بزيادة ربع يوم عما كنت عليه سابقا، نحن نقيس الزمن بتغير المناخ فنقسم سنتنا أربعة فصول (الشتاء – الربيع – الصيف – الخريف)، أما قدماء المصرين فحسبوا زمنهم بالسنة الشمسية والتي تبدأ بشروق نجم الشعري اليمنية مع الشمس في المشرق، واستمر الحال كذلك حتى عهد الأسرة الثانية عشر (2000-1790 ق.م).