سنتأمل اليوم مفردات أغنية بنت الحارة من فيلم (ريا وسكينة)، ومفرداتها المصرية وجماليات الفن بها… ليس أروع من تلك البداية في الأغنية لمن يتأملها، فهو صلاح أبو سيف، الذي حقق فيلمه هذا نجاحا ساحقا وقت عرضه عام 1953م.
احداث فيلم ريا وسكينة
يبدأ المشهد مظهرا قوة شخصية ريا وحنكتها الادارية قبل البدء في المهمة، فتقوم بثلاثة أشياء متناقضة، حيث تشير بعينيها لمشرف الحفر ليتبعها لتطمأن على سير العمل (إدارة)، ثم تذهب لغرفة إبنتها النائمة وتغطيها (حنان)، ثم تذهب لتأخذ جرعة خمر (مزاج)، ثم تجهز الشاي الملغم بالمنوم… كل هذا ببرود وكأنها ليست مقدمة على قتل نفس، ولم ينسها جلال الحدث أن تغطي إبنتها (كانت لفتة بألف كلمة).
ومن يتأمل المشهد مرة أخرى مع التركيز في التفاصيل، يجد أن مشرف الحفر لا يستغني عن السيجارة وهو يصعد السلم ورائها، ويمسك السيجارة بشهوة بالسبابة والابهام مما يعطيك انطباعا بسيطرة الكيف على كل الموجودين بالمشهد… ونلاحظ أن عمال الحفر كانوا خاملين، وهبوا للعمل فقط عند مشاهدتها… وهنا تظهر طبيعة بعض العمال المصريين من الهروب من العمل طالما الاشراف غير متواجد.
وهناك تفصيلة دقيقة أعجبتني، حيث نجدها وهي هابطة من السلم قد شمرت عن جانب من الفستان الذي ترتديه وقبضت عليه بجانب ذراعها.
مفردات لحن بنت الحارة
جمال الكلمات لبيرم التونسي، الذي أبدع فيها، وألبسها ثوب الأحداث المتواترة تماما وهي على النحو التالي:
بنت الحارة يا بنت الحارة.
حبيتك يا ام حلق طاره.
شبه الخوخه وكلامها موصوف للدوخه.
آه يانى منها قاتلانى السوده عيونها.
ومواعدانى تقابلنى علي البر التانى.
والملاحه والملاحه وحبيبتى ملو الطراحه.
أنا إيه ذنبى حدفت لى المنديل البمبى.
فين أراضيها فايتانا يا حسره عليها.
حسرة عليها آه يا حسرة عليها.
كبدي عليها يا كبدي عليها.
جات رجليها ما جات رجليها.
وربما لا تفهم تعبير (ملو الطرّاحة)، وهو تعبير ريفي صميم يدل على (إمتلاء الجسد)، حيث يفضل الريفيون السمينة عن “المعصعصة”.. فالطرّاحة هي (المرتبة)، فيكون تعبير “ملو الطراحة” أن يملأ جسدها المرتبة فتكون مرغوبة.
جمال اللحن
يعود اللحن لأحمد صدقي، حيث يبدأ بالايقاع الشعبي الذي يرافقه الاكورديون أو (الاورج القديم) وهي آلة محببة للشخصية الشعبية… وينقسم اللحن الى جزأين:
الجزء الأول هو الجزء الراقص ليعطي فرصة للمشاهد أن يستمتع بالأغنية قليلا ويستمخ قبل أن يدخل الجزء الثاني من بداية (والملاحة والملاحة) وهو لحن توظيفي يناسب الحدث في ايقاعه السريع حيث يشعرك بروشة ودربكة وقلق وتوتر، ويزيد التوتر مع استدامة ترديد الكورال لعبارة (حسرة عليها يا حسرة عليها) بلا توقف، مع أداء حر مرافق من شفيق جلال.
والعجيب هنا أن شفيق جلال يشدو مع تلك الخلفية بعبارة (وعلى زولها وجمالها)، أي (حسرة على راجلها وحسرة على جمالها).. فكلمة (زول) ليست من المفردات المصرية، فهل تأثرنا بالسودانيين في الخمسينات؟
جماليات الإخراج
من أجمل ما رأيت بالعمل، هو الكدر الذي يظهر فيه عازف الأورج عبارة عن ظل أسود، بينما باقي الكدر مضئ، وهذا التناقض أراد به المخرج أن يرمز لموسيقى الموت، وأنا هذا العازف ليس عازف بهجة، بل (عازف الموت).
ثم عمل “زوم إن” على كوب الشاي بينما تتحرك به نجمة ابراهيم حتى يملأ الكدر ليؤكد فكرة اقتراب الاغتيال فيدب الرعب في شغاف المتفرج.
فكرة هز النجفة جاءت حينما إصطدمت بها نجمة ابراهيم لأنها كانت تتابع الراقصة بانتشاء بعد نجاح المهمة، ففوجئت بها على رأسها فضربتها بعنف، وهنا بدأ التصوير الحركي الذي يميل بكدر الكاميرا يمينا ويسارا، مع ظهور الاضاءات المتحركة على أفراد العصابة مع فوران براد الشاي يصيب المشاهد بالدوخة ليتوحد مع المشهد ويتعاطف بقلق مع الضحية.
ولا ننسى الاقتدار في التناغم بين كلمات الأغنية والأحداث الجارية، فما أن تشرب الراقصة الشاي حتى تكون قد تناهت الأغنية إلى المقطع المشؤوم: (فين أراضيها، فين أراضيها، فيتانة، يا حسرة عليها)… هنا، يكون مفعول المنوم قد ظهرَ على الضحية المسكينة ونجد القتلة المتربّصون لايقاعها أرضا، وقد تصدرت سحناتهم شرارات الغدر المتماهية بالطمع وربما الشبق. ثم تتوقف الموسيقى فجأة لتناسب جلال الحدث.
الكلمات العامية بالأغنية معظمها من اللغة المصرية، مثل (حارة)، (طارة) (بمبي)، (فايتانا)، (طراحة) .. تعال معى لنتعرف على الأصل لبعض من تلك المفردات.
اصل مفردات بنت الحارة في مصر القديمة
نبدأ بالكلمة الاولي وهي (حارة) وهي من كلمة “حرت” في اللغة المصرية القديمة وتترجم (Lane) بمعني (مسار، طريق، حارة).
![]() |
حرت |
اما في عبارة (فايتانا يا حسرة عليها) تبدأ القصة من كلمة “بد” بمعني (قدم)..
![]() |
بد – قدم |
وهي أصل كلمة (بيادة) التي يرتديها الجندي المصري، وتعني حرفياً (المنتمية للقدم).. عند تبادل حرف الباء المعطشة لكلمة (بد) بحرف الفاء فصارت (فد) ثم (فت) ومنها كلمة (foot) بمعني (قدم).
![]() |
بد – يذهب |
نجد بعد ذلك ان كلمة (بد) بمعني (يذهب، يجري) تحولت الى (بوت) في القبطية، ثم الي (فوت) في العامية، فقولنا (فوت قدامي)، (فوت علينا بكره)، (ما تفوتنيش لوحدي).
![]() |
بوت |
ألم نقل جيناتهم في أجسادنا، ولغتهم على شفانا، تحياتي للجميع، سامح مقار.