الجديد

رجل الاقتصاد فريدريك هايك

دايما لما بيجي في دماغنا كلمة “حرية” او “تحرر” بيجي في دماغنا مفهومهم السياسي او الفلسفي البحت بمعني الحرية الفردية والمشاركة في اختيار النظام الحاكم، لكن رجل الاقتصاد والفيلسوف السياسي العظيم اللي هنتكلم عنه النهاردة كان ليه رأي مغاير، فريدريك هايك.

رجل الاقتصاد فريدريك هايك

هايك كانت رؤيته وتعريفه ل “المجتمع الحر” ول “الحرية” انهم رؤية سياسية بتتبني المنافسة والسوق الحر والاسعار المتغيرة بناءا علي العرض والطلب كقواعد منظمة للحياة والمجتمع.

بالنسبة لهايك السوق الحر هوا الضامن الوحيد لحرية الافراد، وعلي العكس فالتدخل الحكومي في الاسواق هوا اضمن واقصر الطرق للوقوع في “الاستعباد”.

نشأة فريدريك هايك

اتولد لاسرة نمساوية ارستوقراطية، والده كان طبيب، هايك كان مهتم من صغره بالفلسفة والسياسة، وبعد فترة خدمة قصيرة في الجيش المجري- النمساوي في الحرب العالمية الاولي هيتجه لدراسة الاقتصاد السياسي وفلسفته وهيحصل علي دكتوراة فيه من جامعة ڤيينا.

مسيرته المهنية

اما مسيرته المهنية اللامعة تنقسم لحقبتين، الاولي كانت في لندن حتي منتصف اربعينات القرن ال20 وكان مشغول حصرا بالاقتصاد والجدالات الدائرة فيه، من 1945 شغل مناصب في جامعات كتير وحاضر فيها زي شيكاجو ولوس انچيلوس وسالزبورج ومكانش بيحاضر بس عن الاقتصاد ولكن ايضا عن السياسة والفلسفة وعلم النفس وفلسفة العلوم. 

ورغم تقاعده رسميا في 1968 الا ان شهرته وتاثيره ظهره اكتر من اي وقت في السبعينات والتمانينات لما حصل علي جايزة نوبل في الاقتصاد عام 74 ولان فكره كان له تاثير كبير جدا علي سياسات حكومتي مارجريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريجان في امريكا.

نظرة هايك للسوق

بعد انضمامه لمدرسة لندن للعلوم الاقتصادية في 1931 انخرط بشدة في النقاشات الاقتصادية الشائعة في الوقت ده واللي كانت مركزة جدا في “النظرية الاقتصادية”، و“الدورة المالية” اللي ببساطة بتحاول تشرح طريقة عمل راس المال وازاي وليه “بينمو” و“ينكمش”، النظرية الاقتصادية التقليدية بتقول ان النمو والانخفاض مع الوقت بيوازنوا بعض عن طريق آليات السوق مما يؤدي في النهاية الي توزيع الموارد بشكل سوي وصحيح داخل النظام الاقتصادي، المشكلة اللي ان لو تصورنا دورات النمو والانخفاض علي رسم بياني ممثلين ب “قمم و قيعان” فظهورهم مستمر وبيحصل بشكل اكبر مما يجب ومما هوا متوقع !!!

مع انهيار السوق وحدوث “الركود الكبير” في عشرينات القرن الماضي، تسابق علماء الاقتصاد لتفسير اللي حصل ده، رؤية هايك وتفسيره كانت معتمدة علي “العرض”، ودي رؤية المدرسة الكلاسيكية اللي بينتمي ليها بشكل كبير.

لاحظ هايك ان في اوقات الركود بتسارع الحكومات للتدخل بضخ عملات وورقات مالية اكتر و/او خفض سعر الفايدة لتشجيع الاستثمار بدل من تشجيع الادخار عشان السوق يزدهر من تاني، هوا شاف ده خطأ جسيم لان مع توفر النقود بشكل كبير في الاوقات ده فاصحاب الشركات بيسارعوا للاستثمار في اشياء وبضايع مش عليها “طلب” من المستهلكين مما يؤدي لركود البضايع دي وافلاس الشركات المنتجة ليها وضياع القوة الاقتصادية في استثمارات عديمة الجدوي، بالاضافة لده فخفض الفايدة وتوفر العملة هيشجع السلوك الادخاري والتطلع للمكاسب البعيدة وهيبعد نظر المستثمرين واصحاب الشركات عن “المكسب السريع” اللي هوا الدافع الاولي المحرك للسوق.

مقاومة اغراء التدخل بزيادة “المعروض” من قبل الحكومات كان شئ اساسي في نظر هايك لحل مشكلة الركود الكبير.

زمايل هايك في مدرسة لندن كانوا متقبلين اراؤه دي، الا ان في كامبريدچ كان في رأي اخر ومغاير تماما بيتبناه الاقتصادي العظيم الاخر “چون ماينارد كينز”.

بالنسبة لكينز المشكلة مكنتش في “العرض” ولكن في الطلب، كان بيشوف ان الحكومات لازم تستثمر في الخدمات العامة زي الطرق مثلا وده من شانه خلق وظايف جديدة للناس هتمدهم باموال وقوة شرائية هتخليهم يشتروا وده اللي هيعمل نمو اقتصادي وهيقضي علي الركود، القضاء علي البطالة مش مطلب اجتماعي عند كينز ولكن ضرورة اقتصادية.

رؤية هايك عن التدخل الحكومى في الاسواق

الرؤية دي كانت متعارضة تماما مع رؤية هايك اللي كان بيشوف ان التدخل الحكومي لاجل خلق وظايف جديدة هيتطلب ضخ مزيد من العملة وده في النهاية هيتسبب في حدوث “تضخم” مروع زي اللي اصاب النمسا بلده وقضي علي ثروات عيلته.

في التلاتينات كينز وهايك كانوا بيتراسلوا كتير فيما بينهم، وكانوا علي خلاف دايم في مناقشاتهم دي وعمرهم ما اتفقوا، وحدث انهم اتقابلوا شخصيا بالصدفة اثناء الحرب العالمية التانية لما تم اجلاء مدرسة لندن لكمبريدج ساعة القصف الالماني، اتقابلوا علي سطح كنيسة الملك لكن للاسف محدش يعرف اتكلموا في ايه.

النصف الاخر من مسيرة هايك بيبدأ مع تخليه عن النقاشات الاقتصادية الاكاديمية الجافة وكتابته لاشهر اعماله الجماهيرية “طريق الاستعباد”.

هايك شاف كتابه ده “اعلان حرب” علي افكار معادية ليه، خصوصا انه تم رفضه للانضمام للجيش الانجليزي لانه كان عضو في جيش معادي سابقا، وان الحكومة الانجليزية تبنت بشكل كبير افكار كينز في سياساتها الاقتصادية في الوقت ده، هايك كتب الكتاب ده عشان ينقذ الناس من نفسهم، او بمعني اصح من التدخلات الحكومية في الاقتصاد اللي من شانها قيادة البشر للدمار او “الاستعباد”. وقام بصياغة كذا حجة للتدليل علي كلامه:

1- مكانش بيشوف ان الالمان كعرق وحدهم اللي عندهم مشكلة تبني ودعم “الحكومات السلطوية” وان ده مش ميل طبيعي فيهم ولا حاجة رغم شيوع الفكرة دي وقتها.

2- بالنسبه له الخطأ الاكبر اللي قام بيه كل من المانيا والاتحاد السوڤيتي وقتها هوا “تدخل الدولة” بسياسات ما في السوق، الشئ اللي عطل عمل السوق اللي بيشتغل وبينظم نفسه بشكل آلي، والمشكلة الاكبر كمان ان التدخل ده من شأنه ارجاع مهمة الاصلاح واتخاذ القرارات ل “شخص واحد” هو رأس الدولة، ده شئ هيقود الشعوب بتعبيره ل “السير نياما الي احضان الديكتاتورية”.

3- هايك مكانش قلقان من فكرة “الشخص الواحد” اللي قراراته وحكمه بيعول عليهم دايما في حد ذاتها، لكن كان بيعتقد ان دي مشكلة عظمي لان مفيش حد كُفء ان يقوم بالمهمة دي، مهما كان ذكاء “الفرد” فهوا مش اهل انه يتخذ قرارات اقتصادية عقلانية وصحيحة، ونرجع تاني ناكد نقطة الانطلاق، هايك مفهومه عن الحرية هيا حرية السوق مش حرية صندوق الاقتراع، مكانش عنده مشكلة كبيرة مع حكم اوتوقراطي سياسي بيتبني سياسات اقتصادية حرة، لكن الشر الاعظم عنده هوا نظام اقتصادي بيتدخل في عمل السوق.

هايك كان بينظر للسوق علي انه شئ عملاق ومعقد جدا بيتألف من ملايين ان لم يكن مليارات التعاملات والتبادلات اللي بتحصل باستمرار وفي كل وقت، كل شئ في السوق بيؤكد الحقيقة دي، الضايع بتباع وبتشتري، الخدمات بيتم الاستثمار فيها وبعضها بيتم النفور عنها، المجاعات والازمات مثلا بتحدد المقدار اللازم للاكل وبتحدد سعره، كل ده عن طريق الفكرة البسيطة للتوازن بين “العرض و الطلب”: لما الاشخاص بيقرروا يشتروا شئ ما بيأثره علي سعره، لو زاد الطلب وقل المعروض واصبح في حالة “ندرة” السعر بيزيد، لو قل الطلب وتوفر الشئ ده بكثرة السعر هيقل.

بالشكل ده السوق بيعملك “استفتاء شعبي دائم” علي قيمة الاشياء داخل اقتصاد ما، بالنسبة لهايك السوق عبارة عن “توافق جمعي” بيشارك فيه الافراد المشاركين فيه، ضد “حكمة المجتمع عامة وما اتفقوا عليه” بقي، ايه قيمة رأي “فرد واحد” وتدخله مهما كان، اكيد مش هيجلب غير المشاكل !!!

“دعوا السوق يقوم بعمله” ده ملخص مفهوم الحرية عند هايك.

“طريق الاستعباد” رفع اسم هايك جدا، من لحظة نشره اعتلي قوايم الاكتر مبيعا، ولما حصل نقص في الورق اثناء الحرب العالمية التانية مكانش متاح تلبية كل الطلبات عليه لكترتها. وفي الولايات المتحدة ظهر ملخصات كتير للكتاب عشان توصل رسالته. وتم استقبال فكره بترحيب في الاوساط الاميريكية وانتقل هوا شخصيا للتدريس في جامعة شيكاجو اللي هتصبح مركز للفكر الاقتصادي التحرري المعتمد بشكل كبير علي افكار فريدريك هايك.

في مشكلتين واجهوا الكتاب: الاولي ان حتي اشد مناصريه من زملائه الاكاديميين اعتبروا الكتاب نوع من الحياد عن الطريقة الاكاديمية وشافوه عمل صحفي للتسلية اكتر منه للعلم، التانية ان كينز غريمه التقليدي مدح الكتاب جدا الا انه تحداه يوضح الخط الفاصل اللي عنده يقف التدخل الحكومي في السياسات الاقتصادية، في النهاية هايك مش شخص “اناركي” وفعلا في ضرورة دايمة لتدخل ما مهما كان قليل !!!

هايك قعد سنين كتير يحاول ايجاد اجابة لتحدي كينز لغاية ما كتب كتابه “دستور الحرية” اللي فيه رسم حدود التوقف ده بشكل عملي، الكتاب ده لاقي رواج شديد بين اهل “اليمين” السياسي، لدرجة انه يحكي ان مارجريت ثاتشر اثناء نقاش اقتصادي محتدم خرجت الكتاب ده من شنطتها وقالت “هذا ما نؤمن به” !!!

فكر هايك مازال مؤثر لليوم، دايما فكرة التدخل الحكومي البسيط في الاسواق فكرة جذابة جدا للناخبين ولرجال الاعمال علي السواء، حتي في اشد الازمات الاقتصادية زي ازمة 2008 العالمية مكانش في ثقة في ان التدخل الحكومي هوا الحل، والدليل علي كدة احتلال “طريق الاستعباد” قوايم الاكتر مبيعا في 2010 بعد 60 سنة من كتابته.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-