الجديد

عصر النهضة الأوروبية

في كل التاريخ الأوروبي لا يوجد محطة جديرة بالتوقف فيها وامامها اكتر من الفترة اللي بيطلق عليها عصر النهضة الأوروبية ، الفترة العظيمة دي امتدت ما يقرب من 300 سنة من 1300 الى 1600 ميلادي.

عصر النهضة الأوروبية

ما وراء عصر النهضة الأوروبية

للبعض تبدو دراسة الفترة دي شئ ممل وغامض خصوصا مهاويس عصرنا اللي التكنولوجيا والحياة السريعة شئ اثير بالنسبه لهم، لكن مع بعض دلوقتي هنشوف ليه دراسة وفهم الحقبة دي ونسقها الفكري وطموح مفكرينها وفلاسفتها وفنانيها هوا شئ رائع ومفيد للغاية لينا في عالمنا اليوم.

لورينزو ومساعداته في النهضة الأوروبية

عام 1469، فلورنسا، إيطاليا، احد نبلاء اوروبا الشاب “لورينزو دي ميدتشي” بيتولي اعمال عيلته الشهيرة جدا وصاحبة انجح مؤسسة مالية في اوروبا في الوقت ده، بنك ميديتشي اللي فروعه موجودة ساعتها في اكتر من مدينة زي جينيف وروما وفلورنسا.

لورينزو موهوب جدا كرجل اعمال زي والده و اعمامه والبنك هينجح في الانتشار لمدن اخري زي بروج وايبيزا وغيرهم، عيلة "دي ميديتشي" زيهم زي الطبقة العليا في فلورنسا وقتها كانوا مهتمين جدا بالثراء، لكن تكديس المال مكنش همهم ودافعهم لتكوين ثروتهم ولكن شئ اخر اعظم وانبل، كان عندهم “رؤية” خاصة جدا لما يسمي اليوم “الأعمال الإنسانية”، كان هدف الإنفاق ده هوا الاعلاء من شأن”الفن والجمال والحكمة” ونشرهم.

جد لورينزو هيقوم بجمع كتير من امهات الكتب فيما هيعرف وقتها بمكتبة "دي ميديتشي"، وهيقوم لورينزو بتوسيعها بشكل كبير جدا عن طريق انه هيكلف معاونيه بالبحث عن الكتب والنصوص القديمة الضائعة في كل انحاء أوروبا، وكان بيقوم بدور “الراعي” لكتير من الفلاسفة العظام وقتها وعلي رأسهم "مارسيلو فيتشينو" و "دي لا مارينديلا" وغيرهم، وتحت رعايته ودعمه قام الفلاسفة دول بمهمة دراسة الفلسفة اليونانية واعادة اكتشاف كنوز الحكمة منها، هيدرسوا ابيقور وزينو وارسطو وهيحاولوا التوفيق بين افكار أفلاطون والمسيحية.

لورينزو برضه كان معروف اكتر كراعي للفن والفنانين، مجلسه كان بيضم عظام الفنانين زي ليوناردو دافينشي وبوتيتشيلي وجيلاندايو ومايكيل انجيلو، ومكانش مجرد راعي ليهم ده كان صديق مقرب جدا منهم، علي سبيل المثال مايكيل انجيلو عاش في منزله لمدة 5 سنين.

بالرغم ان عيلة دي ميديتشي كانوا أغنياء جدا الا ان ثروتهم متواضعة جدا مقارنة باغنياء العالم اليوم، ورغم كدة علي مدار اربع عقود يقدر انهم صرفوا علي الفن والمعمار والفكر ما يعادل نص مليار دولار !!!

ده يبدو قليل جدا بالنظر للي بيصرفوا أثرياء العالم اليوم علي الاعمال الانسانية، لكن لكم ان تتصورا ان ده يعادل نصف ثروتهم، لو نظرنا لثروات رجال الأعمال وقارناها بثروة لورينزو دي ميديتشي هنفهم قد ايه هوا واسرته كانوا باذخي العطاء، مثلا جورجيو ارماني ثروته تقدر ب 8.5 مليار، وبيل جيتس ثروته 79 مليار !!!

المال كان مهم جدا لتحقيق الإنجازات دي اللي عملها لورينزو وعيلته، لكن العالم اليوم لا ينقصه المال لتحقيق إنجازات مماثلة، كل ما في الامر هوا “نقص في الرؤية” !!!

ال دي ميديتشي مكنوش مجرد بيسلموا اموال للفنانين والمفكرين عشان يعملوا اللي هما عايزينه، لكن كان عندهم رؤية معينة لمهمة الفن والفكر، المهمة دي هيا التعليم والإرشاد، مثلا لازم الفن يرسخ لأهمية قيمة معينة زي الطيبة والعطف، وايضا مثال اخر هوا تخليد ذكري الابطال والقادة الناجحين.

ببساطة عصر النهضة مكنش حد هيفتكره هوا ورموزه زي ال دي ميديتشي لو كان كل انجازهم هو كنز الأموال، الشئ الخالد بجد اللي بنتذكرهم بيه هوا رؤيتهم وحلمهم اللي نجحوا بشكل كبير في تحقيقه: فكر وفن افضل من أجل حياة أجمل واغني !!!

المفكر الإنساني الإيطالي بوجيو براشيوليني

عام 1417، احد اديرة المانيا، المفكر الإنساني الإيطالي بوجيو براشيوليني بيجوب أنحاء سويسرا وألمانيا بحثا عن مخطوطات قديمة مهمة ضائعة، وفي احد جوانب دير للطائفة البنديكتية بيقوم باحد اهم كشوفات عصر النهضة لما بيجد النسخة الأصلية والوحيدة لاهم عمل ل ابيقور “في طبيعة الأشياء”.

بيذهل براشيوليني ومعاونيه وأصدقائه بمدي حكمة افكار ابيقور عن العلم والسعادة والنفس الإنسانية، ده كان مجرد العلامة الفارقة لمسيرة براشيوليني المهنية العظيمة في صيد النصوص والكتب القيمة، كان حرفيا بيصرف امواله كله في سعيه لإيجاد الكتب ديه، وفي قصة مشهورة عنه انه قام برشوة احد الرهبان عشان يسمحله بإخراج احد الكتب من الدير اللي الراهب ده مقيم فيه !!!

للوهلة الأولى يبدوا كأحد مهاويس البحث العلمي في عصرنا اللي كل همهم اقتناء الكتب ودراستها من أجل الدراسة في حد ذاتها، لكن رؤية باحثي عصر النهضة مختلفة تماماً، رؤية براجماتية نفعية تماماً، براشيوليني كان بيلهس خلف الكتب دي لانها تحتوي على حكمة “نافعة ومفيدة” لعصرنا وليس من أجل اقتناءها كتحف، هدفهم هوا جعل عصرهم اكتر حكمة وعلما، وبناء مدنهم كاجمل ما يكون.

أفكار رابيقور معجبتش براشيوليني لانها قديمة وذات رونق جميل ولكن لأنها كانت ذات نفع واهمية عملية كبيرة جدا، بيبحث مش لانه عايز ينول دكتوراه ولكن لانه عايز يبني حياة.

ميكالوزيو دي بارتولوميو

عام 1484، فلورنسا، إيطاليا، بيقوم “ميكالوزيو دي بارتولوميو” احد معماريي ال دي ميديتشي بإنهاء بناء منزل العائلة المسمي “قصر دي ميديتشي”، المنزل مبني بحيث يعبر عن روح عصر النهضة بالتحديد، العقلانية والتجانس الجمالي والنظام، العصر ده كان عصر المعمار الذهبي في فلورنسا، وبالمثل في مدن العصر ده العظمي الأخرى زي روما وفينيسيا وسيينا، مدن شبه الجزيرة الإيطالية كانت مركز فكرة عصر النهضة الكبري عن ان المدن العامة لازم تبقي مراكز جمالية مش بس مكان للسكن والحياة، الامر هيبقي محرج جدا لينا لو قارننا معمار عصر النهضة بمعمارنا الآن !!!

دايما بيقال انهم كانوا محظوظين بده مش اكتر، مكنوش شايلين هم اماكن انتظار للسيارات ومكنوش بيواجهوا قوانين متعسفة زي دلوقتي، لكن حقيقة الوضع مختلفة تماما، الوضع بالنسبة لمفكري وفناني ومعماريي عصر النهضة مكنش صدفة او حظ، دي كانت مهمة فلسفية محورية بالنسبالهم، الفكرة والدافع ورا الاهتمام بجمال المعمار هوا اعتقادهم ان شخصياتنا كبشر بتتاثر جدا بشكل المباني المحيطة بينا، جمال المباني هيبني شخصيات وانفس وعقول جميلة، بالإضافة ان مش ده بس اللي بينفي عنهم فكرة الحظ، دول كتبوا كتب وقوانين وقواعد كتيرة جدا عما يجب أن يكون عليه المعمار، على سبيل المثال كان عندهم قواعد لعمل الميدان، انه لازم يبقي صغير بحيث ان الام تقدر تنده على ابنها اللي بيلعب في الجانب الآخر منه بسهولة، وان لازم كل ميدان يحتوي على نافورة جميلة في مركزه.

رموز ومفكري عصر النهضة كانوا متأثرين جدا بالفيلسوف الروماني سالاست لما اعترض علي حال روما القديمة انها بتعاني من “قبح وشح العام وجمال وفخامة الخاص”، الوضع لازم يكون غير كدة، الجمال لازم يعم الأرجاء عامة عشان جمال المنظر يبقي متاح للجميع وعشان ده من شأنه إعلاء الحياة في الجماعة وتقليل العزلة.

وجود المدن دي وجمالها الفائق مش بس دليل علي تفوق عصر النهضة ولكن ايضا دليل علي فقر رؤيتنا اليوم اننا مش قادرين نبني مدن في نفس مستوى الجمال، ودي مش دعوة رجعية بالمناسبة، احنا مش مطالبين بتقليدهم، احنا فقط مطالبين لاستلهام روحهم عشان نبني مدن جميلة بمقاييس عصرنا !!!

الفنان بيليني

عام 1488، فينيسيا، إيطاليا، بيهتم الفنان بيليني بناء رواق جميل جدا وفي مركزه صورة للمسيح مع العذراء، الشكل ده كان بيتم تصويره من وقت طويل، لكنه فقط مع بيليني وفناني النهضة اصبح ينطق بالحياة، يسوع مصور كطفل من الحياة اليومية وكذلك مريم، نقدر بسهولة من تصويره ليها نتخيل معاناتها وتفكيرها وهنرسم ليها في رؤوسنا صورة فتاة نقية وجميلة جدا نتمني دعوتها علي العشاء.

الامر ساعات يدعو للحيرة والاستغراب ازاي مكان واحد وحقبة واحدة قصيرة جدا زي عصر النهضة شهدت كل العدد ده من عباقرة الفن، دوناتيلو ودافينشي ومايكيل انجيلو ورافيلو وبيليني وتيشين وكارافاجيو وغيرهم كتيييير، كل دول كانوا في نفس الفترة !!!

في نظرية بتقول ان كل عصر في نفس عدد المواهب الفنية الكامنة، لكن اللي بيساعد حقبة معينة علي التفوق، زي مثلا الحقبة الرومانية او عصر النهضة او فرنسا أواخر القرن ال 19، هوا في الواقع وضوح الهدف من الفن، مفيش حاجة اسمها “الفن من اجل الفن”، الفن لازم يبقى له مهمة محددة وبالتالي بتنجح المواهب دي في الظهور لما بتنجح في تحقيق الهدف ده ولما بيتم دعمهم والاستثمار فيهم من اجل الغاية المعينة دي، عشان كدة السبب في ظهور الكم ده من العباقرة في عصر النهضة مش شئ غير وضوح الرؤية وتحددها.

نقدر نقول ان عصر النهضة احد اهم سماته الفنية هيا الاعلاء من شأن فكرة “الدعاية”، بس مش بمفهومنا اليوم انها لتسويق البضايع الاستهلاكية، ولكن تسويق “قيم” معينة، الجمال والحكمة !!!

الفن في عصر النهضة هدفه واضح، جعل الافكار العظيمة نابضة بالحياة وتشجيع الناس علي اعتناقها.

احد اهم المواد اللي تم عمل دعاية كبيرة جدا في العصر ده هيا الفلسفة، دايما بنعتقد ان الفلاسفة اشخاص تجريديين وصارمين عشان كدة بننفر منهم، في عصر النهضة تم تكليف احد اكتر فنانينه موهبة “رفايلو” بتصوير الفلاسفة علي جدران الفاتيكان بشكل نابض بالحياة والروعة.

في احد اهم اعماله بيقوم “تيشين” بتصوير مراحل الحياة المتعاقبة بسرعة من طفولة لشباب لعجز عشان ياكد الرسالة الفلسفية المهمة جدا عن قصر الحياة واهمية استغلال وقتنا القصير فيها وعدم حمل ضغائن ضد الاخرين، في الطبيعي محدش بيحب يفكر في ده، الا ان ريشة والوان وعبقرية تيشين صورت ده باروع شكل وخليته يوصل لكل من ينظر اليها بشكل عفوي وجمالي، لانه ببساطة استخدم العناصر والصور الجاذبة للناس وقتها من الملائكة والازواج الجذابين جنسيا، فبالتالي رفع معاناة التجريد وعمل دمج رائع للمتلقي مع الفكرة اللي عاوز يوصلها.

فيلسوف عصر النهضة الأوروبية الاعظم مارسيلو فيتشينو

فكرة الفن كدعاية فكرية تم ترسيخها على ايد فيلسوف عصر النهضة الاعظم “مارسيلو فيتشينو”، وصاغ فيتشينو الفكرة بالشكل التالي: لو عايزين الناس تتبني فكر معين لازم يحبوه، وعشان يحبوه لازم يبقي جميل لان دي آلية عمل العقل البشري، اعتناق ما نحب، وحب ما هوا جميل، ورمز الجمال الأعظم عند البشر هوا الجنس !!!

عشان كدة الطريق للفكرة بيمر كدة: الجنس> الجمالية> الحب> الاعتناق والتنفيذ.

نفس الفكر التسويقي لعصرنا، استخدام الجمال للبيع والانتشار، ولكن في عصرنا بنبيع بضائع، فيتشينو نشر فكر !!!

عمر الأفكار ما كانت ذات رونق جمالي يضاهي ما وصلت له علي ايد فيتشينو و لورينزو دي ميديتشي، مثلا اعمال بوتيتشيلي مليئة بالأشخاص فائقي الجمال بسبب رؤية فكرية لعصر النهضة، لوحاته مليئة بالوجوه الجميلة المفعمة بالحياة والحزن في بعض الأوقات، وايضا والاهم شكلهم جذاب جدا للاعين، انتا مش محتاج تفكر كتير في قيمهم عشان تعتنقها، فقط الانجذاب ليهم هيخليك تقلدهم !!!

الخلاصة هيا استخدام الغرائز وعوامل الجذب لينا كبشر زي الجنس في جعلنا علي الجانب الجيد الاكتر قيمة من الحياة، بدل من جعلها عذاب لينا جعلها مصدر لكل ما هوا رائع في هذا العالم.

دايما بنعتقد اننا بنعظم عصر النهضة الأوروبية بشكل كافي لما بنزور معالمه من المدن ونشتري لوحات فنانيه بملايين، لكن مش ده الواجب علينا عمله، الاهم هوا استلهام روحهم من اجل عصرنا، مش لازم ننظر بأعيننا لعصرهم، ولكن لازم ننظر باعينهم لعصرنا !!!




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-