الجديد

العبور قصة القصيرة

سأقص على حضراتكم أعزائى القراء اليوم قصة قصيرة تحت عنوان العبور ، فتابعوا معى سرد الحكاية.

العبور قصة القصيرة

بداية قصة العبور

ألقى الليل بردائه الأول على الشاطئ النهري.. ذكور الناموس تبحث عن إناثها.. صف طويل من الضفادع النهرية يتناثر على حافتي الشاطئ يمارس هوايته في النعيق.

طيور راكسة في الشاطئ سادرة تنفض ريشها و أخرى في السماء تطلق أصواتاً متباينة النغمات.. الذكور منها تستعرض مهارتها في الطيران و فحولتها لتجذب الإناث إليها.

أسراب متتابعة من الأسماك تقطع طريق هجرتها بالسباحة السريعة.. وأخرى تعوم منفردة قد تكون واضعة بيضها في مكان ما.

رميت حجراً في النهر أختبر به عمقه فأحدث موجات دائرية كبيرة الأقطار واستقر في قعره فتهافتت إليه مجموعة من الأسماك و حامت حوله تشمه ثم تركته و تفرقت.

صوت الحجر وهو يشق الماء كان لذيذاً.. نتيجة الاختبار تقول: إن عمق الشاطئ يساوي طولي ناقصاً منه الرقبة والرأس.

أردت اختبار عمق حمأ الشاطئ ولزوجته ولكني لم أجد سيخاً.. معلوماتي الجغرافية عن الأنهار ضحلة جداً فلا أعرف مواسم فيضانها ولا منسوب المياه فيها.

الصورة المرسومة في ذهني عن الأنهار أنها رقيقة وادعة.. النصوص الشعرية في المدرسة حببتني فيها.. تأكدت من وجود الخريطة تحت قبعة الرأس.

وربطت خيوط الحذاء جيداً.. جربت الحذاء بدكتين بقدمي على الأرض.. غرست العلم الصغير في بنطلوني الضيق.. جعلت عوده واقفاً جنب فخذي الأيمن و خرقته تهف على خاصرتي.

كانت الريح أشبه بالمتثائبة.. لم أحمل معي زاداً.. كنت قانعاً بما سأكله من مائدة النهر و الصحراء.. ولكني حرصت كثيراً على حمل أعواد ثقاب كافية دسستها في القبعة.

النزول إلى النهر

نزلت النهر.. كانت يداي مغروستين على حافته وظهري معلق في الهواء و قدماي تلامسان الحمأ. تشجعت و رفعت يدي على الحافة و انتصبت في الماء بكامل عودي.

تعمدت أن أكون جائعاً كي أسبح جيداً و أعبر سريعاً.. نطت على كتفي ضفدعة و تجمدت مكاني.. أحسست بالماء بارداً.. فتحت راحتي يدي و شربت من ماء النهر كي أبل ريقي.

حين انحنيت لأشرب نطت الضفدعة إلى الماء و أحسست بدفء على جلدي فظننت أنها قد تبولت عليّ.. تذكرت محاذير عجائز قريتنا من بول الضفادع فغطست في الماء بكاملي إلا رأسي.

صنعت من يدي مجدافين و رحت أغوص حتى عبرت إلى النصف.. كان منسوب المياه يرتفع بهدوء غير ملحوظ والحمأ يزداد هشاشة تقلقني.

استشعرت سمكة صغيرة (حرسونة) تدغدغني.. دخلت سترتي التي نفخها الماء.. كانت تفتح فمها و تعض لحم صدري.. أول مرة أجرب عض السمك.

ضغطت بيدي على الماء المتجمع في صدر السترة لأضطرها إلى الخروج لكنها انفلتت و اختبأت تحت أبطي.. دارت معركة بيني و بينها انتهت بنزع سترتي و تعليقها على كتفي.

رأيت السمكة تطفو على السطح ميتة.. كنت مفتوناً ببرودة الماء المتجمع في سترتي لكنها السمكة سامحها الله.. خفت من أسماك أخرى تعطل عبوري من أجل ذلك نزعت السترة.

جاءت نحوي سمكة كبيرة.. اعترضت طريق هجرتها ساقاي المغروستان في الحمأ.. ظلت السمكة فترة طويلة فاتحة فمها و ترقص ذيلها.

خفت أن تكون سمكة ملغومة أو بداخلها عبوة ناسفة فأفسحت الطريق لها، حين رأيت السمكة تذكرت الأسلاك الشائكة و تذكرت أنني نسيت المقص الحديدي.

قدوم الليل

ألقى الليل بردائه الثاني فتذكرت أني نسيت الكشاف اليدوي و طالعت ساعة يدي المضيئة في الليل فقرأت التاريخ وعرفت أنها الليالي البيض فواصلت العبور.

شعرت بوخز شوكة في مؤخرة قدمي اليسرى.. مددت يدي إليها ونزعتها بقوة الرغبة في سرعة العبور.. سالت دمائي في مياه النهر.

لم أبال بكميتها و لكني تمنيت وجود جدي في تلك اللحظة ليضع على مكان الشوكة مطحون رأس الوزغ ليلفظها جسمي بسرعة و دون ألم.

لم يبق إلا ربع الطريق.. قلت لنفسي: ليت يدي تطولان فأمسك بالزغب المغروس في الثرى على الضفة الأخرى.. لا أريد أن أمسك بالنباتات الطويلة.

يكفيني أن أمسك بالزغب وحده فالطمع في الدين فقط.. رأيته مقبلاً نحوي.. لا أدري هل هو يطير في الماء أم يسبح؟ كان إقباله سريعاً و مخيفاً.

اختفى في غبار الطين الذي كونته بخوفي منه.. كان النهر عارياً من نباتات مائية.. لم يكن به سوى أكداس من الشبا الأخضر.

تأوهت من لدغته التي جاءت في ساقي اليمنى.. إنه (المقراف) بلونه الأسود القاتم وهيكله الصلب.. تمنيت ثانية جدتي بجانبي لتعصر على مكان لدغته ليمونة خضراء.

لكنه المقراف سامحه الله.. خاب ظني في الضفادع المصطفة على الضفة الأخرى فكنت أظن أنها ستشكل صفاً خلفياً من الجنود يحميني و يقيل عثرتي و لكنها ظلت تنعق.

اشتهيت أن أدخن و أنا في الماء فقد كنت مشرفاً على إتمام المهمة.. كنت أحس رائحة التبغ والليمون تصطدم بأنفي آتية من وراء الأسلاك الشائكة.

نهاية قصة العبور

ألقى الليل بردائه الثالث و لكن ضوء القمر مزقه.. كنت أرى صورتي تتحرك في القمر المزروع في السماء.. ازداد منسوب المياه في النهر.

بدأت ألفظ الماء المتسرب إلى حلقي من أنفي.. كنت مغلقاً فمي غلقاً تاماً ووددت التضحية بغلق أنفي أيضاً و لكن لا مناص من التنفس و لو بمجرى هوائي واحد.

كانت موجات الماء تدفعني.. تقهرني.. تجرني معها إلى الخلف.. قاومت بصدري.. شعرت بثقل الحذاء.. تجلدت وغطست وفككت خيوطه بسرعة عجيبة و تركته يسبح مع الأسماك المهاجرة في الليل.

حد البنطلون الضيق من سرعة عبوري فخلعته و أنا أقاوم التيار.. كانت عيناي و شعر رأسي الشيئين الواضحين مني.. قلت لنفسي: عبوري عارياً أفضل من لابس.

العرايا في الليل يخيفون ولا يخافون .. تذكرت أن أعواد الثقاب ابتلت و أن الخريطة ابتلت هي الأخرى و هاجرت مع الأسماك و القبعة.. رأيت شبح العلم طافياً.

قلت : لا بأس في الطبيعة من الألوان و الأعواد ما يمكنني من صناعة علم جديد.. قررت إن قاومت غرقت و لكن لأجاري التيار و أستغله و أسبح معه.

اصطدم بوجهي طير من طيور التجارب.. التحم برقبتي.. كنت أريد أن اقرأ المكتوب على قلادته لكن الليل و التيار منعاني من ذلك.

قررت أن قناصاً قتله و منعه النهر من القبض عليه و أكله و آمنت أن الإنسان طائر تجارب بلا قلادة.. سبحت مع التيار وصور غسان ونجم وثائر تسبح في ذاكرتي.

تذكرت قسم العبور المشترك.. التخاذل.. الإخلال بالوعد.. النكوص.. صورهم في الجرائد والمجلات.. أسماؤهم على الشوارع والجدران.. اللقاءات التلفزيونية مع أبنائهم وأبائهم وأمهاتهم وأحاديث وكالات الأنباء عنهم و تقارير المراسلين.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-