اغلبنا لما بنسمع كلمة “الادب الاميريكي” بيجي في دماغنا اسامي زي هيمينجواي او ستاينبيك او تينيسي ويليامز او هنري ميلر او ارثر ميلر، كل دي اسامي لعمالقة فعلا، الا ان الاسم الاهم في كل الادب الاميريكي واللي بيعتبر بحق ابو الادب الاميريكي هوا الراجل اللي هنتكلم عنه دلوقتي، رالف والدو ايميرسون.
مكانة رالف والدو ايميرسون
لانه ببساطة الشخص اللي قام عبر كتابة ابحاثه النقدية الرائعة في منتصف القرن ال 19 بالحد من التاثير الاوروبي الادبي التقليدي وخلق ادب اميريكي “اصيل”.
قبله كان الادب الاميريكي مجرد امتداد لتقاليد القارة العجوز لا اكتر، لكن هوا كان النقطة اللي مكنت ومهدت لقيام ادب اصيل قائم بذاته مقاطع ومغاير تماما لتراث ما وراء الاطلنطي.
“لقد استمعنا لوقت طويل وكافي لابواق ملهمي اوروبا” دي من جمله الشهيرة، القطيعة الادبية اللي قام بيها ايميرسون هيا بمثابة ما يمكن ان يسمي “اعلان الاستقلال الادبي” اسوة باعلان الاستقلال الاميريكي الشهير اللي صاغه الاباء المؤسسين واللي بيعتبر المسودة الاولي لقيام الولايات المتحدة الاميريكية.
رالف والدو ايميرسون كشخص ونظرا لظروف مولده وتقاليد عيلته كان يصعب التنبؤ انه هيكون ليه المكانة الثورية دي في تاريخ الادب، اتولد لمبشر وواعظ مسيحي من بوسطن، واجداده كلهم كانوا كهنة وقساوسة لاجيال بعيدة تعود حتي لبداية الطائفة البيوريتانية قدما.
ورغم عدم غني اسرته الا ان والدته ارسلته لجامعة هارفارد عشان يكمل تعليمه وبعدها مدرسة هارفارد اللاهوتية عشان يكمل في سلك الكهنوت زي ابوه واجداده، في شبابه اتاثر بعمته “ماري مودي ايميرسون” الفتاة البسيطة اللي علمت نفسها بنفسها وقرت كتير جدا من شكسبير للعلوم الطبيعية للدين، وكونت لنفسها نسيج عقدي وفكري فريد بناءا علي قراءاتها دي هيظل تاثيره واضح علي كتابات ابن اخوها دايما.
وبعد ما تم تنصيبه في السلك الكهنوتي مباشرة اتم زواجه من حب عمره ماري، الا انه كان حتي في الوقت ده حاسس بضجر وملل رهيب من الحياة التقليدية في موطنه نيو انجلاند في اميريكا، بعدها بسنتين زوجته هتموت من السل وهيقرر يسافر في رحلة لاوروبا، الرحلة دي هتغير كل حاجة في فكره وهتمده بشرارات فكرية جديدة تماما هيأسس عليها مذهبه الادبي الثوري.
رالف والدو ايميرسون والأدب الثورى
الشئ الاول اللي اتغير في اديبنا في الرحلة دي والشرارة الاولي جاتله لما كان في باريس وزار “حديقة النباتات” الشهيرة هناك، ودي حديقة نباتية وحيوانية كبيرة جدا في وقتها، ايميرسون قال بعد الزيارة دي ” انني اشعر بكل شئ هنا في داخلي، اشعر بالزواحف والطيور والثعالب، انني اتحرك بدوافع غريبة حقا، انني اردد باستمرار انني ساصبح عالم طبيعة !!! “.
الفكرة اللي جاتله ان “الطبيعة” موجودة بداخلنا، جزء لا يتجزأ عنا، ومش بس بصفاتها الراقية وجمالياتها، ولكن ايضا بقسوتها وبربريتها.
الشئ التاني الكبير اللي حصل لايميرسون في الرحلة دي انه قابل شاعري الرومانسية العظيمين كولريدج و وردزورث، والغريب انه لاقاهم اشخاص عاديين ومحافظين جدا، الفكرة اللي جاتله من الموضوع ده هيا انه بما ان الشخصيات العظيمة ممكن تبقي شخصيات عادية جدا، طب ليه لأ الشخصيات العادية متبقاش شخصيات عظيمة ؟!
وكتب بعد كدة “ان الطلاب الشباب يجلسوا في المكتبات وكل همهم تلقي وتحصيل ما كتبه سيسيرو وبيكون ولوك، متناسين ان هؤلاء العظماء لم يكونوا الا مثلهم في شبابهم في المكتبات وهم يكتبون كتبهم”.
هنلاحظ ان الفكرتين دول هيبقوا المرشد الاهم لكل فكره وهما ان الانسان والطبيعة ما هما الا شئ واحد، وان كل انسان ممكن يكون لديه من الفرادة والاهمية ما لاعظم البشر.
عودة رالف والدو ايميرسون لأمريكا
بعد عودته لأمريكا اصبح محاضر في قاعات نيو انجلاند العلمية، كان بيحاضر في الادب والطبيعة وهيتزوج تاني وهيخلف وهيعيش ما يبدو عليه حياة بورجوازية عادية جدا، الا ان حياته الروحية والفكرية الداخلية كانت ملأي بالعواصف والتقلبات والاصالة.
وبعد سنين قليلة هيكتب بحثه “الطبيعة” اللي هيكون نواة لفلسفة جديدة تماما وهيا “الاصالة الاميريكية” اللي في مطلعه هيكتب ” ان عصرنا رجعي النظرة، اننا نبني اعمدة السابقين، نكتب سير وتواريخ ونقد للسابقين، ان الاجيال الماضية وضعت الطبيعة والاله وجها لوجه ونحن فقط ننظر من خلال اعينهم هم، لماذا لا يكون لنا نظرتنا الاصيلة الخاصة للكون؟!”
الفكر الجديد
في فكر رالف والدو ايميرسون الجديد امريكا يجب ان تتوقف عن النظر للتراث الاوروبي الفكري ومن خلاله وانما يجب ان يكون لها نظرتها الخاصة، لا يوجد وقت اهم من الحاضر، لا يوجد تقليد اهم من الحداثة الفكرية، لا يوجد جيل اهم من الجيل الحالي، كل ما يهم هوا “هنا” و “الان” و ال هنا اللي يقصدها هيا اميريكا.
ده كان مجرد امتداد لاهمية فكرة الفرد اللي عنونها ب “الاعتماد علي النفس”، كان كل ما ينظر علي الناس من حوله يجدهم بيعيشوا حياتهم طبقا لتعاليم المجتمع والدين التقليدي حولهم وليست حياة من اختيارهم هما، محدش كان عارف يبقي ذاته بسبب الانشغال بانهم يكونوا “ما يفترض ان يكونوا”، ايميرسون كان همه الاكبر هوا كسر العوائق التلاتة الاهم امام الاصالة الشخصية وهما الماضي والدين والمجتمع.
“ان التاريخ هوا حمل وجرح عميق، والدين هوا شئ لم نختره ولكن اختاره المجتمع لنا، والمجتمع هوا دائم التآمر علي الافراد ليسلبهم انسانيتهم، اننا يجب ان نحيا من داخلنا والا نثق الا في عقولنا، ففي النهاية لا يوجد شئ اكثر قداسة من فرادة عقولنا.” دي كلماته اللي بتلخص نظرته.
طبيعتنا الأصلية
ولكن ده بيقودنا لسؤال مهم، ايه هيا طبيعتنا الاصيلة؟ لو اتخلصنا من المجتمع والتقاليد والدين التقليدي ايه اللي هيبقي مننا، هل هوا الانانية والفردانية.
عند رالف والدو ايميرسون كانت طبيعتنا الاصيلة شئ مغاير تماما، وكان بيقصد بده الانسجام والتماهي مع الطبيعة نفسها، واللي يبدو للوهلة الاولي انه كان بيقصد بيها الصخور والسما والنباتات والحيوانات، لكن اللي كان بيقصده فعلا بالطبيعة هوا الله.
رالف والدو ايميرسون كان من اشد مناصري ومعتنقي فكرة “وحدة الوجود” اللي بتقول ان الطبيعة والله هما شئ واحد وان الله موجود في كل شئ حولنا من حبات الرمال للنجوم في السماء، ولكن الاهم اننا كبشر كل منا بيحمل في داخله هذه الشرارة الالهية، بتحررنا من التقاليد احنا مش بس بنكون ذواتنا الفريدة ولكن ايضا بنحرر هذه الطاقة الالهية بداخلنا اللي التقاليد دي بتتعمد تحجبها، احنا في نظره حطام لكننا قادرين علي لملمة انفسنا من جديد ما ان ننحي كل التقاليد جانبا.
وفي اشهر كلماته لخص فلسفته دي بمنتهي الجمال لما قال “ان عبور طريق ما بين حبات الثليج في الغسق تحت سماء ملبدة بالغيوم بدون ان احمل في رأسي اي فكر عن اي من ملهيات الحياة احدث بحق اعظم خفقان لقلبي، انني سعيد حد الخوف، ها انا اقف علي الارض العارية وراسي منغمس في الهواء الطلق، كل شئ من الانانية والشر قد اختفي، انني لا شئ، مجرد عدسة شفافة، اري الآن كل شئ، تيار الوجود يسري بداخلي، انني جزء من الله”.
التقليد
في التقليد الرومانتيكي الاشياء المهيبة زي الغابات الواسعة والجبال الشاهقة هيا مصدر الالهام، ولكن عند ايميرسون مصدر الالهام هي كل الاشياء المعتادة، زي تمشية في الطريق العام تحت الثلوج.
إله ايميرسون موجود في حبات الجليد هذه ايضا، عشان كدة في لحظة وجود وتجلي زي دي بيشعر بانعدام ذاته وذوبانه في كيان الله، بيصبح مجرد “عدسة شفافة” تعكس تيار الوجود ككل، لحظات زي دي نادرة لكنها غاية الاهمية لانها بتكشف العلاقة بين الله والطبيعة والانسان، انهم في الواقع شئ واحد.
وبتعطي ايضا احساس باهمية كل فرد كجزء من الله. وده كان مولد الفلسفة والفكر الترانسندنتالي او المتسامي او المتعالي بفضل ايميرسون.
أفكار ايميرسون
ومن اهم الافكار اللي غرسها ايميرسون كانت اهمية العادي واليومي، الحياة العادية اليومية عنده كانت مواضيع شعرية وادبية مناسبة جدا، لان الاله المتسامي موجود عنده في كل شئ، وكتب “لا يوجد شئ سئ او مظلم لدرجة الا ينجلي قبحه من شدة النور” في اشارة ان الجمال ممكن ايجاده في كل شئ مهما كان.
ودي مهمة الشاعر عنده، حتي الجثث عنده ممكن تبقي موضوع جمالي، وده شئ نفذه بنفسه لما فتح قبر زوجته ليلقي نظرة بعد موتها بسنة.
فكر ايميرسون كان المحرر لكتاب عظام كتير بعده، مكنهم انهم ينظروا حولهم ويكتبوا عما يروه، محولين العادي واليومي لمواضيع جمالية جدا، كتاب زي ثورو و ويتمان وايميلي ديكينسون اللي كتبت عن الجانب الاخر للموت بعد سماعها صوت حشرة طائرة وميلفيل اللي حول مغامرته في البحر مع الحيتان الي استعارة ادبية عظيمة عن الفكر الاستعماري وتحدي الطبيعة.
كل دول خرجوا من عباءة فكر ايميرسون ويعتبروا تلاميذ ليه، حتي شعراء زي فروست واشبري هما امتداد لفكر الاصالة الاميريكي اللي ارساه ايميرسون، عشان كدة نختم بالوصف المستحق اللي بدأنا وصفه بيه، انه هوا بحق “ابو الادب الاميريكي”.