الجديد

الأديب الروسى فيودور دوستويفسكي

لو كل اللي تعرفه عن فيودور دوستويفسكي بعض المقولات الشهيرة المنتشرة ومكتفي بده فاسمحلي اقولك انتا فايتك عالم باكمله مش مجرد قراية اعمال اديب ما.

الأديب الروسى فيودور دوستويفسكي

مولد فيودور دوستويفسكي

اتولد في احد ضواحي اطراف موسكو لعائلة ارثوذوكسية متدينة جدا وميسورة الحال، والده كان طبيب ناجح جدا وكان بيعمل في مستشفي خيري بتعالج الفقراء، والاسرة كان ليها منزل في محيط المستشفي وداخل بيئتها، عشان كدة اديبنا هيتعرض لخبرات واحداث مأسوية من صغره اقرانه من الاطفال ميقدروش علي تصورها حتي!!!

زي ما قولنا اسرته كانت ارثوذوكسية متدينة جدا كسائر روسيا القيصرية، وهوا نفسه ايمانه ده هيتعمق مرحلة بعد مرحلة، في عمر ال12 هيتم ارساله لمدرسة داخلية في موسكو اولا وبعدها في العاصمة سان بيترسبرج، وهيجد فيودور الصغير نفسه محاط بابناء الطبقة الارستوقراطية وهوا ابن الطبقة العاملة متوسطة الحال.

وهوا بيدرس والده هيتم قتله علي ايد احد رعاياه اغلب الظن، بعد اتمام الدراسة هيشتغل فترة كمهندس وهيبدأ يقامر بالفلوس ويخسرها، لاحقا في عشرينياته هيكون صداقه مع مجموعة من الكتاب الشباب الراديكاليين الا انه مكانش منخرط بشدة معاهم في نشاطهم، لكن مع قرار الحكومة القبض علي المجموعات المماثلة ومحاكمتها هيتم القبض عليه هوا الاخر والحكم عليه بالاعدام رميا بالرصاص، الا انه في اللحظات الاخيرة قبل تنفيذ الحكم هيصدر امر بتخفيف عقوبته للاشغال الشاقة 4 سنين في سيبيريا، فقط بعد العودة من العقوبة هيبدأ يكرس نفسه للكتابة بشكل كامل.

هينتجلنا دوستويفسكي بعض اعظم الاعمال الادبية علي الاطلاق زي “مذكرات من العالم السفلي” و”الاحمق” و”الجريمة والعقاب” و”الاخوة كارامازوف”، واللي بيتميزوا بالطول والتعقيد والسوداوية، من خلالهم وصلنا اديبنا 4 دروس مهمة:

الدرس الاول

اول رواياته الكبري هوا “مذكرات من العالم السفلي” اللي بتكلمنا عن سخط احد الموظفين المدنيين علي الحياة بشكل عام، بطل الرواية اللي هوا الموظف ده شخص مرير دائم الغضب والكره للعالم ولنفسه، كان ممكن يروح لتجمع لم شمل مع زملائه القدام فقط ليخبرهم كم كرهه ليهم، مهمته الرئيسية هيا وخز وهدم كل اوهام البشر وجعلهم تعيسين زيه.

يبدو شخصية قاسية غير صالحة للعب دور البطولة، لكنه بيؤكد دايما بشدة وبغرابة علي احد اسود الحقائق عننا نحن البشر: احنا دائمي السعي خلف السعادة الا اننا عندنا مهارة غير طبيعية للوقوع في البؤس والتعاسة.

“الانسان في حالة عشق بشكل فائق مع المعاناة، هذه حقيقة !!!” دي احد اقواله ..

كان همه مواجهة فلسفات الامل المستقبلي الشائعة في عصره كما في عصورنا الراهنة، الفلسفات دي دايما بتمدنا بأمل امكانية اصلاح العالم والحصول علي السعادة فقط لو حصلت حاجة معينة ومشكلة معينة اتحلت، زي اننا نقول لو اسقطنا الحكومة الفلانية او لو اتجوزنا شخص ما او حصلنا علي وظيفة معينة مثلا، ساعتها بس حياتنا هتبقي تمام.

دي كلها مجرد اوهام في رأيه، احنا خلقنا لنعاني، لا يوجد اي انجاز او تكنولوجيا او تقدم من شأنه انهاء الشقاء البشري، كل اللي بتقدر الاشياء دي تعمله انها تستبدل شقاء بشقاء اخر، الحياة قرص دوار بيغير مكان الالم ولكن لا يمحوه، اقضي علي الفقر والمجاعات مثلا والناس هيبدأوا فورا التألم من الملل او الجشع !!!

دوستويفسكي كان بيفكرنا دايما بتناقضنا الداخلي في ميلنا دايما للبعد عن الشئ اللي المفروض اننا بندور عليه اللي هوا السعادة، مثلا شخص مهووس بالسلطة والنفوذ، فكرة المساواة المجتمعية هتبقي كابوس ليه رغم ان المفروض دي فكرة من شأنها اسعاد الجميع، او مثلا الاثارة والمتعة اللي بتحصلنا من اخبار الجرايم، ده شئ يقول ان مجتمع مسالم هيحرمنا من السعادة دي.

مذكرات من العالم السفلي هتظل عمل سوداوي الا انه ملئ بالافكار العظيمة الناقضة لليبرالية الحديثة ورؤيتها المتفائلة الحالمة بحل مشاكل العالم تقنيا، مش بغرض كره التفاؤل التقني ده في حد ذاته ولكن لتذكيرنا دايما بمدي تعقد فكرة النماء البشري وان صراعتنا الداخلية مش حلها مجرد آلات متطورة.

الدرس التانى

في “الجريمة والعقاب” بنقابل بطلنا روديون راسكولنيكوف، المثقف الفقير قاسي الطباع اللي عنده هوس بالسيطرة والقوة، اللي رغم كونه نكرة الا انه معتقد في نفسه انه مماثل لنابليون، وكان بيقول “كل قادة العالم التاريخيين مجرمين بلا استثناء، فقط استبدلوا قواعد عالمهم باخري اكتر ملائمة لمصالحهم، واراقة الدماء في سبيل تحقيق اهدافهم ليست مشكلة بالنسبة لهم علي الاطلاق”.

بطل الرواية كان عنده هوس بالثراء اللي هيحققله في اعتقاده القوة والنفوذ، عشان كدة هيقرر يقتل سيدة ثرية جدا كانت بتعمل في السمسرة والاقراضات الربوية ويستولي علي ثروتها، وكان هيتجنن من الغضب والغيظ بسبب فكرة غياب العدالة في ان ازاي امرأة شمطاء جاهلة زيها غنية جدا مقارنة بيه هوا الشخص المثقف العميق، بيدخل في يوم ويقتلها بقسوة وبيجد عندها اختها فبيقتلها هيا الاخري، الا انه بيكتشف انه مش بالقسوة اللي كان معتقدها في نفسه، الاحساس بالذنب والكوابيس هيعذبوه لغاية ما هيروح يسلم نفسه ويعترف بجرمه ويحصل علي العقوبة المناسبة.

غالبا احنا مش هنعمل زي راسكولنيكوف الا اننا بنتشارك معاه في فكرة جهلنا بحقيقة انفسنا، هوا كان بيعتقد في نفسه القسوة الا انه بيكتشف حقيقة انه مرهف القلب، كلنا بنعتقد اننا نعرف ذواتنا علي حقيقتها الا ان دي مش الحقيقة، جزء كبير من نضوجنا هوا نتيجة فك طلاسم انفسنا ومعرفتها علي حقيقتها.

بطل الجريمة والعقاب مثير للانتباه اكتر مننا بسبب رحلته لاكتشاف حقيقته، كتاب كتير جدا كتبه عن الطبيعة القاسية المختفية تحت مظاهر كاذبة، الا ان دوستويفسكي فضل يكتب عن العكس، عن اشخاص يظهروا خارجيا كوحوش الا انهم في الداخل اشخاص عاديين زينا جميعا فيهم جانبهم الضعيف والطيب، داخل الوحش راسكولنيكوف هنلاقي شخص عطوف مخدوع بفكرة غلط عن نفسه، وده درس عظيم بيعلمنا ان حتي اعتي الوحوش واغربهم لو نظرنا داخلهم هنجد ما يدعونا للتعاطف معهم والشفقة عليهم.

دوستويفسكي كان عايز يحطم الفجوة الوهمية بين “احنا” الاشخاص الجيدين و”هما” المجرمين ويعلمنا اننا زيهم بالظبط، مجرد بشر جيدين احيانا وخطائين احيان اخري، في لحظة العجرفة الاخلاقية بيقتحم اديبنا انفسنا وبيفكرنا ان مهما كان جرم الشخص فهوا مجرد بشر، كلنا راسكولنيكوف .. وهنا بتظهر مسيحية دوستويفسكي، لا احد خارج حدود غفران الله مهما كانت جرائمه.

الدرس الثالث

روايته العظيمة القادمة “الاحمق” بتبتدي من حدث افلاته من الموت رميا بالرصاص في اخر لحظة، في اللحظات دي بيشوف مدي روعة الحياة لما لمح صليب كنيسة وهوا بيلمع في شعاع شمس خافت، هوا عمره قبل كدة ما حس قد ايه شعاع الشمس شئ ساحر، اخيرا بيحس بقيمة الحياة ذاتها، بيتمني لو انه كان حتي مجرد شحات بس يعيش عشان يتنفس الحياة اللي ادرك روعتها وقيمتها اخيرا وهوا علي مشارف الموت، وبعد كدة بيجي الامر بتخفيف الحكم ويكتشف ان الامر لم ينتهي والحياة قدامه لسة.

وبيتساءل عن لو كلنا ادركنا مدي روعة وقيمة الحياة من البداية بدل من واحنا علي مشارف الموت، اكيد كنا هنبقي مختلفين تماما، هنحب كل الناس، هنسحر من الاشياء البسيطة، عمرنا ما هيتملكنا الغضب، هنبدو لكل الناس كشخص “احمق”، وده سبب تسمية الرواية، احنا دايما محاطين باشياء رائعة ولكننا معميين عنها، دوستويفسكي كان همه من خلال الاحمق انه يشيل العمي ده قبل الموت ما يدركنا.

الدرس الرابع

في اخر اعماله الكبري “الاخوة كارامازوف” بيحكي قصة داخل القصة اسمها “المفتش الاكبر” بتحكي عن ان قيامة المسيح التانية وعودته حصلوا بالفعل، وانه نزل في احد مدن اسبانيا في عز فترة سطوة الكنيسة الكاثوليكية اللي من المفترض انها قائمة بالكامل من اجل المسيح، اللي بعد عودته بيحاول يتم مهمته في نشر الحب والتسامح بين البشر.

لكن شئ غريب جدا بيحصل، بيقوم اعلي سلطة كنسية اللي هوا المفتش الاكبر بحبس المسيح ومحاكمته، وبيزور المفتش ده المسيح ليلا في سجنه وبيخبره انه لا يمكنه السماح له بانجاز تعاليمه دي لانها خطر علي استقرار المجتمع. ببساطة لان المسيح نقي وطيب زيادة عن اللزوم ولان الناس متقدرش تعيش طبقا لمعاييره دي ابدا وان ده منافي لطبيعتنا، وبناءا عليه يجب علي المسيح اعلان فشله وفشل مخططه للخلاص.

دوستويفسكي مبيصورش المفتش الاكبر علي انه وحش، بالعكس بيصوره علي انه شخص محترم جدا ومحط تقدير، الفكرة كلها ان المشكلة فعلا في مثالية المسيح الغير طبيعية والغير ملائمة لينا احنا البشر، ودي فكرة لازم نعترف بيها، احنا منقدرش نعيش انقياء بشكل كامل، ولازم منهربش من الواقع ده ونكره انفسنا بسببه ولازم نتقبله.

ودي مش نظرة تشاؤمية محدودة بل عامة للحالة البشرية ككل، احنا عمرنا ما هنبقي كاملين ابدا، لازم نشيل من رؤوسنا مثاليات المسيحية وغيرها من الديانات والايديولوجيات المشابهة.

فلسفة دوستويفسكي تبدو قاتمة ولكنها واقعية وناضجة واقدر ما يمكن علي افاقتنا ومساعدتنا في عصرنا المجنون دائم التفاؤل بلا حساب.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-