الجديد

عالم الإجتماع أوغست كونت

مفكرنا اللي هنتكلم عنه، الفيلسوف الفرنسي اللامع فكريا وغريب الاطوار أوغست كونت واللي كان بالكاد عاقل في المنظور العام.

دايما في اعتقادنا ان الملحد مش بس غير مؤمن بالديانات ولكنه عنيف ايضا تجاهها، وده مش خاطئ علي الدوام، لكن ايضا في نوع من المفكرين الملحدين مش بس كانوا متسامحين مع الفكر الديني ولكن معجبين بشدة ببعض جوانبه الشعائرية الايجابية.

وكانوا بيأملوا بدمج الجوانب دي في تقليد علماني ارضي يشمل معاها نبذ الخرافات الميتافيزيقية والاعتماد علي حقائق العلم، علي رأس المفكرين دول يأتي مفكرنا أوغست كونت.

عالم الإجتماع أوغست كونت

حياة أوغست كونت

اتولد لعائلة كاثوليكية متدينة جدا في مدينة مونبيليه جنوب فرنسا، وتلقي تعليم تقدمي جدا لدرجة انه اصبح مهووس ببناء فرنسا جديدة اسسها العلم والفكر الجمهوري.

عيلته هتكره ده فيه جدا وهتقطع علاقتها بيه عشان كدة هينتقل لباريس وهيشتغل مع المفكر و الفيلسوف ذو الفكر الطوباوي سان سيمون، لكن طبيعة كونت العدائية هتتسبب في نشوب خلافات مع سيمون وهيتركه، الطبيعة دي نفسها هتتسبب انه هيفشل في شغل اي وظيفة جامعية وان كتاباته المعقدة مش هتلاقي الرواج اللي تستحقه.

أوغست كونت مكانش عاقل بالكامل فعلا وهيدخل مصحات عقلية اكتر من مرة وهيحاول الانتحار قفزا في نهر باريسي، هيحب امرأة بس علاقتهم مش هتكمل بسبب موتها المبكر الا انها هتفضل ذات مكانة مركزية في نسقه الفكري الديني اللي بيوصفه البعض بالغريب.

ورغم غرابته دي الا انه قدر يجذب انتباه واعجاب الفيلسوف الانجليزي العظيم چون ستيوارت ميل اللي هيساعده وهيعرف انجلترا عليه وعلي فكره.

أوغست كونت وفكره الديني

نقطة الانطلاق لفكر كونت الديني هي ملاحظة حادة وصحيحة الي حد كبير وهيا ان في ظل الاكتشافات العلمية الحديثة اصبح من الصعب الايمان بالدين وبالاله الديني التقليدي، وان الايمان اصبح مقصور علي قليلي الذكاء والغير متعلمين والعجزة والاطفال والمرضي اللي بيتعلقوا باي امل حتي لو كان كاذب.

لكنه برضه لاحظ ان المجتمع اللاديني المكرس بالكامل لتحقيق الثراء المادي وللحب الرومانسي بدون اي مصدر للمواساة والسمو والترابط والتضامن المجتمعي “ودي ادوار بيلعبها الدين بشكل كفؤ جدا في نظره” هيبقي مجتمع ملئ بالامراض وعدم الاستواء النفسي علي مستوي الافراد والدول.

وكان الحل عنده هوا الوصول لحل وسط، لا ننبذ الدين بشكل كامل ولا نعتنقه حرفيا بشكل اعمي، ولكن توليف جوانبه الاجتماعية المفيدة وصهرها في مؤسسة علمانية فكريا بتستمد الالهام من الادب والفلسفة والعلم، وهيكون للناتج اسم جديد هوا “دين الانسانية” !!!

منظومة فكرية للملحدين تمدهم بمصدر للعزاء الروحاني وفي نفس الوقت ركيزتها الفكرية متوائمة مع الكشوفات العلمية الحديثة، منظومة ملائمة للانسان الحديث مش لمجتمعات بدائية كانت بتعيش عام 400 قبل الميلاد.

وقدم كونت دينه الجديد في كتابين: “ملخص عرض للدين الكوني الجديد” و “نظرية عن انسان المستقبل”.

لاحظ فيلسوفنا ان الدين التقليدي بيستمد سيطرته وسلطته علي اتباعه من اعطائهم اچندة اعمال يومية او حتي لحظية بتملي عليهم كيفية التصرف والتفكير، ودايما ده بيبقي بناءا علي حدث او شخصية فائقة للطبيعة، عشان كدة اعلن هوا عن اچندته الخاصة المؤسسة علي ابطال وافكار علمانية.

في كنيسة الديانة الجديدة كل شهر كان مخصص للاحتفاء بجانب من انجازات وشئون البشر الدنيوية العظيمة، مثلا شهر للفن وشهر للفلسفة وشهر للعلم وشهر للموسيقي وشهر للزراعة وشهر للزواج وشهر للابوة وهكذا، وكل يوم في الشهر بيبقي مخصص للكلام عن احد الابطال اللي اسهموا في المجال ده.

الإلتزام الأخلاقى

كونت كان برضه معجب جدا بالالتزام الاخلاقي اللي الدين بيفرضه علي اتباعه، مثلا ازاي يتصرفوا تجاه ازواجهم وتجاه المجتمع، وكان بيشوف ان الحكومات الليبرالية الحديثة في سعيها لاظهار الحياد ومراعاة خاطر الجميع ما خلقتش غير طرق مضمونة لتدمير المجتمع والافراد باطلاق العنان لغرورهم ومصالحهم الشخصية اللي تم اعلائها فوق المصلحة العامة، عشان كدة في ديانة كونت هيكون في فصول لتعليم وحس الاتباع علي انهم يكونوا ازواج عطوفين و انهم يكونوا متعاونين مع/ وطيبين تجاه زملائهم في العمل وانهم يساعدوا الضعفاء المعدومين.

ولاحظ ايضا اهمية وشدة احتياجنا للمواساة، عشان كدة هتحل حبيبته بايقونات علي حوائط المعابد الخاصة بديانته مكان “مريم العذراء” في الكاثوليكية، ولما الانسان يبقي مخنوق ومحتاج مواساة هيجي قدام صورها ويبكي ويطلب المدد الروحي منها كرمز للطيبة والعطف الانسانيين.

وبسبب تقديره الشديد للدور المعماري الديني، قال ان لازم الديانة الجديدة يبقي ليها سلسلة كنائس علمانية في كل مكان وسماها “معابد الانسانية”، واقترح ان كل معبد هيتم تمويله من احد اصحاب البنوك وان اسهامه ده هيخلد بتمثال نصفي ليه علي مدخل المعبد، كان بده عايز يستبدل كره اصحاب البنوك الاثرياء واستخدامهم لخدمة قضايا نبيلة.

وداخل المعابد دي هيبقي فيه محاضرات تنويرية ورقص ومزيكا راقية وعلي الجدران صور بتخلد عظماء البشر علي مر التاريخ، وداخل اروقتها هيتكتب بحروف من دهب جملته الخالدة اللي بتلخص فلسفته “اعرف نفسك لتحسن من نفسك” !!!

السخرية

مشروعه ده لاقي عواقب كتير، سخرية من كل الجوانب، الملحدين والمتدينين علي السواء، تجاهل العامة وغياب الدعم المادي، كل ده تسبب باصابته باليأس والاشفاق علي نفسه، وكتب خطابات لملوك كتير من زعماء اوروبا وللاثرياء ايضا بيعرض عليهم اهمية مشروعه وبيطلب دعمهم، الا انه ملقاش ردود مشجعة ومات فيلسوفنا بحزن شديد عن عمر 59 سنة.

الا انه زي المسيح بالظبط، فكره هيلاقي رواج وقوة واتباع بعد مماته اكتر من وقت حياته، في العقود التالية لوفاته هتنتشر معابد ديانة كونت في اكتر من مكان، اشهرهم “كنيس الانسانية” في باريس المستمر لليوم وبيقدم خدمات زي عقد الزواج المدني والتعميد العلماني !!!

فكره عبر المانش ووصل انجلترا علي يد احد اللوردات المتحمسين وانشأ معبد بنفس الاسم الباريسي، الديانة الجديدة هتعبر المحيط كمان عن طريق بعض تلاميذه المتحمسين وهتنشئ مجموعة من المعابد العلمانية في البرازيل في مدن ريو دي جانيرو وساو باولو وقرطبة، ورغم قلة الاتباع في الدولة ذات الاغلبية المسيحية المتدينة الا ان بعض المعابد مازال يعمل حتي اليوم في البرازيل مستمدا تعاليمه من الفيلسوف الباريسي غريب الاطوار اوجست كونت !!!

ديانة كونت صعب قبولها تماما الا انه من الصعب تركها واهمالها تماما لاحتواءها علي بعض الجوانب والافكار الالمعية، واحنا في عصور التناحر والاستقطاب الديني دلوقتي احوج ما نكون لتوليفة كونت الفكرية “غريبة الاطوار”.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-